فصل: النظام النيابي وفكرة تمثيل الأمة بواسطة نواب عنها.. أساسه وسنده:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشورى في الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة بالديمقراطية والنظم القانونية



.الأساس الذي يجب أن تبنى عليه مجالس الشورى:

إن كان النظام الإسلامي قد جعل الشورى قاعدة وأساساً من أسس نظام الحكم إذ يقول الحق سبحانه وتعالى مبيناً لذلك في سورة الشورى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} فكلمة وأمرهم شورى بينهم تشير إلى كل ما تحتاج البشرية إلى أن تتشاور فيه، وقد قال بعض العلماء المعاصرين أن كلمة أمرهم التي وردت في النص القرآني تشير إلى كل الأمور ذات الطابع العام ومنها بطبيعة الحال الأسلوب الذي تشكل به الحكومة ورئيسها وهو الخليفة، يضاف إلى ذلك أن آية: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} تعتبر الشورى جزءاً لا يتجزأ من أسلوب الحكم نفسه، وعلى ذلك فإن مهمة سن القوانين في الدولة كما يرى بعض العلماء لا بد وأن تستند إلى مجلس شورى تنتخبه الأمة.
قلت أو يختار فيه من قبل ولي الأمر، غير أن الاختيار أو الانتخاب لا بد وأن يكون ممن تتوافر فيهم الصلاحية باعتبار أن الشورى قاعدة أساسية ومبدأ عام وركيزة أساسية يقوم عليها النظام السياسي الإسلامي فيجب أن يمثل الجميع ويشتركوا فيه كما يفهم من قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} بصيغة الجمع والتقدير القاطع الذي هو في حقيقته أسلوب أمر تقديره (جعلوا) عطفاً على استجابوا وأقاموا فيكون المعنى: ويجعلون أمرهم شورى بينهم.
فالشورى فرض من فروض الكفاية وطبيعة هذا الفرض عامة إذ أن طلب الكفاية متوجه على الجميع كما يقول علماء الأصول، ولكن إذا قام البعض بفعله سقط الإثم والحرج عن الباقين، أي أن الذي يقوم بالفعل إنما ينوب في تنفيذ الفرض عن المجموع، والكفاية هنا في مفهومها الصحيح هي كفاية لتحقيق الهدف وليست كفاية لتحقيق العدد، ولهذا فإنه لا بد من توافر الأهلية والصلاحية فيمن ينتخب أو يختار في هذه المجالس، وكذلك لا بد من توافر الصلاحية فيمن يعين في القضاء، ويكفي أن يكون هناك عدد من القضاة لأداء فرض القضاء وعدد من المحاربين لأداء فريضة الجهاد وهلم جرا. ومؤدى ذلك أن التمثيل والإنابة هي الصورة الطبيعية لتحقيق الفرض العام (الكفائي) في المجتمع الإسلامي.

.النظام النيابي وفكرة تمثيل الأمة بواسطة نواب عنها.. أساسه وسنده:

إن فكرة تمثيل الأمة بواسطة نواب عنها فيما فيه صلاحها واستقامة أحوال الجماعة من أبنائها بواسطة أفراد ينوبون عنها مستقرة في الأذهان ولا يوجد في شرع الله ما يمنع من ذلك، بل إن ذلك مما يوجد له أساس وسند من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو من الأمور التي لا تستقيم الحياة دونها لما في ذلك من التيسير والتعاون على البر الذي أمر الله به في قوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} فقيام البعض من الناس برعاية مصالح الأمة وتدبير شئونها نيابة عنها له ما يدل على مشروعيته ففي سورة براءة يقول الحق جل وعلا: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وفي تفسيرها يقول الإمام القرطبي: إن المقصود بقوله تعالى: {إلى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ} أنهم الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه كان المتولي للعقود وأصحابه رضوا ذلك فكأنهم عاقدوا وعاهدوا وانتسب العهد إليهم... ولا يمكن غير ذلك فإن تحصيل الرضا من الجميع متعذر فإذا عقد الإمام لما يراه من المصلحة أمراً لزم جميع الرعايا.
وبهذه الآية تتأسس مشروعية التمثيل للأمة من القرآن الكريم، بل أن جمع شعب بأكمله أو أمة بكل أفرادها في أمر التشريع والشورى وإدارة شئونها العامة أمر لا يمكن دون نظام النيابة والتمثيل، إذ يستحيل من الناحية المادية جمع الأمة كلها في مكان واحد وحتى لو أننا افترضنا تحقق ذلك لاستحال الوصول إلى رأي واحد وقرار نهائي لسبب اختلاف الآراء وتباين الفهم في المسألة الواحدة.
أضف إلى ذلك أنه قد يتعلق موضوع الشورى في مجلس التشريع بأمر فني بحت أو بأمر يتطلب موضوعه خبرة خاصة لا يصلح لعامة الناس إبداء الرأي فيه وإنما يرجع فيه إلى أهل الاختصاص من العلماء فيكون الأخذ بنظام التمثيل النيابي ضرورة لا مناص من الأخذ بها من أجل تحقيق المصلحة العامة وتمثيل الأمة عن طريق نوابها للمشاركة في اتخاذ القرار وإقامة فريضة الشورى التي أمر الله بها.
وسيجد المتتبع للهدي النبوي أساساً ومستنداً لنظام التمثيل النيابي من سنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقد أخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن ضرب على يده وبايعه سبعون رجلاً من الأنصار قال: «إن موسى أخذ من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً، فلا يجدن منكم أحد في نفسه أن يؤخذ غيره فإنما يختار لي جبريل، فلما تخيرهم قال للنقباء: أنتم كفلاء على غيركم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي. قالوا: نعم»، والحديث واضح الدلالة في أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد سن فكرة اثني عشر رجلاً ليكونوا (نواباً) عن قومهم وكفلاء عليهم.
وسبق أن أوردنا قصة استشارته صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه في غزوة بدر فقام المقداد بن عمر البهراني فقال: والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك حتى تنتهي إليه. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- وإنما يريد الأنصار-: «أشيروا عليّ أيها الناس»، فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أجيب عن الأنصار كأنك يا رسول الله تريدنا. قال: «أجل». قال: فامض يا نبي الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت هذا البحر فخضته لخضناه معك ما بقي منا رجل واحد. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «سيروا على بركة الله فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين»، وفي ذلك تقرير لنيابة سعد وتمثيله للأنصار فقد ناب سعد بن معاذ رضي الله عنه عن الأنصار جميعاً.
وبذلك يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أقر نيابة سعد بن معاذ عن الأنصار وسمح له أن يعبر عن آرائهم وأن يمثلهم في إبداء الرأي نائباً عنهم في ذلك.
وهذا ما يعبر عنه قول سعد: أنا أجيب عن الأنصار. ورضاء الأنصار بهذا التمثيل لهم أو النيابة عنهم ولو لم يرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يشرع مبدأ التمثيل النيابي بسنته التقريرية لقال لسعد لا تحجبنا عنهم ولنسمع آراءهم منهم.
بل إن بعض العلماء المعاصرين يرى أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد سبق الفكر الحديث في إرسائه لنظام التمثيل النسبي حين جعل التمثيل النيابي نسبياً إذ جعل النقباء بحسب عدد سكان كل قبيلة فكان النقباء أو النواب عن الخزرج تسعة وعن الأوس ثلاثة، وبهذا يكون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد سبق إلى تقرير نظام التمثيل النسبي الذي يقره النظام الوضعي لتمثيل الأحزاب السياسية حسب قوتها العددية.

.صلة المجالس التشريعية (نواب الشعب) بأهل الحل والعقد:

إن النظام النيابي من الممكن أن يجد له سنداً في الفقه الإسلامي وفي فعل الصحابة رضوان الله عليهم نجد أساساً لذلك فهذا عمر بن الخطاب رضوان الله عليه قد جعل اختيار الخليفة بعده إلى ستة فسمى علياً وعثمان وطلحة والزبير وعبدالرحمن وسعدا عرفوا بأهل الشورى أو أهل الحل والعقد. قال ابن سعد: فلما اجتمعوا قال عبدالرحمن: اجعلوا أمركم في ثلاثة نفر منكم، فجعل الزبير أمره إلى علي وجعل طلحة أمره إلى عثمان وجعل سعد أمره إلى عبدالرحمن بن عوف فأتمر أولئك الثلاثة حين جعل الأمر إليهم، فقال عبدالرحمن: أيكم يبرأ من الأمر ويحمل الأمر إلي ولكم الله علي ألا آلوكم عن أفضلكم وخيركم للمسلمين فأسكت الشيخان علي وعثمان فقال عبدالرحمن تجعلانه إلي وأنا أخرج منها والله لا آلوكم عن أفضلكم وخيركم للمسلمين قالوا: نعم. فخلا بعلي فقال إن لك من القرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والله عليك لئن استخلفت لتعدلن ولئن استخلف عثمان لتسمعن ولتطيعن، فقال: نعم. قال وخلا بعثمان فقال مثل ذلك، فقال عثمان: نعم. فقال ابسط يدك يا عثمان، فبسط يده فبايعه علي والناس، ولم ينقل عن أحد من الصحابة اعتراض على ذلك فصار ذلك إجماعاً على جواز النيابة عن الأمة، وفي القصة ما يدل على جواز التمثيل النيابي فقد حدث نيابة وتوكيل من ثلاثة منهم لثلاثة آخرين ثم نيابة وتوكيل من اثنين لواحد وصار في النهاية نائباً ووكيلاً عن أهل الحل والعقد ممثلي الأمة ليقوم بنفسه بالعقد نيابة عن الأمة، وفيه أيضاً ما يدل على جواز اختيار ولي الأمر أعضاء المجالس التشريعية أو مجلس الشورى وأنه يجوز أن يكون من مهام المجلس اختيار الحاكم رئيساً كان أو ملكاً أو خليفة وقد ذكر الفقيه الدستوري الماوردي أنه يجوز للخليفة أن ينص على الاختيار كما يجوز أن ينص على أهل العهد.
وقال الفقيه العالم أبو يعلى في أحكامه السلطانية: وهل للخليفة أن ينص على أهل الاختيار كما ينص على أهل العهد؟ قيل يجوز لأنها من حقوق خلافته وعلى ضوء ذلك فإن صلة مجالس الشورى والتشريع بأهل العقد هي صلة وثيقة كما سنبين ذلك ولكننا نود قبل أن نوضح ما قد يطرأ من لبس بين المسميات التي وردت في الفقه الإسلامي في المصطلحات الخاصة بتعيين أهل الشورى، فتارة يطلق عليهم أهل الشورى، وتارة يطلق عليهم أهل الحل والعقد أو أهل الاختيار، والمتبادر من استخدام هذه المصطلحات أنهم يقصدون الأشخاص أولي المكانة في الأمة المُتَبَعين فيها الذين يدين لهم السواد الأعظم من الناس بالزعامة والطاعة، لما اتصفوا به من العدالة والإخلاص والمعرفة الصائبة للأمور، سواءً أكانوا من أهل العلم أم السياسة أم الوجاهة، وقد ذكر الشيخ محمد عبده في توضيح أهل الحل والعقد أنهم علماء الأمة المجتهدون، وسائر الرؤساء والزعماء الذي يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح. ويقول عنهم الشيخ محمود شلتوت: هم أهل النظر الذين عرفوا في الأمة بكمال الاختصاص في بحث الشئون وإدراك المصالح والغيرة عليها، وكانت إطاعتهم هي الأخذ بما يتفقون عليه في المسألة ذات النظر والاجتهاد أو بما يترجح فيها عن طريق الأغلبية أو قوة البرهان. وبهذا تتضح الصلة بين مجالس الشورى وبين أهل الحل والعقد، فالظاهر أن أهل الحل والعقد هم ممثلو الأمة وهم أهل الشورى فيها، فالذي يتبين من خلال بعض النماذج التطبيقية في عهد النبوة، إقرار فكرة نيابة أهل الرأي والوجاهة عن قومهم كما سلف بيان ذلك، وأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد استشار من لهم الطاعة في قومهم ومن عُرف عنهم سداد الرأي، ولذلك اصطلح العلماء فيما بعد على تسميتهم بأهل الحل والعقد، والوقائع التي استشار فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهل الرأي والطاعة من الصحابة رضوان الله عليهم كثيرة، وقد سبقت الإشارة إلى بعضها مثل استشارته أصحابه في غزوة بدر، واستشارته صلى الله عليه وآله وسلم لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة وهما سيدا الأوس والخزرج في مصالحة بني غطفان وأخذه بمشورتهما، وفي عهد الخلفاء الراشدين كان المستشارون هم رؤساء الناس المتبعون فيهم، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه كما ذكر ابن القيم: كان إذا ورد عليه الخصوم أو عرضت عليه مسألة نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي قضى به، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن لم يجد سنة سنها النبي جمع رؤساء الناس فاستشارهم فإذا أجمع رأيهم على شيء قضى به، وكان عمر رضي الله عنه يفعل ذلك.
وبهذا يتضح أن رؤساء الناس من العلماء في شتى المجالات وأفاضل المسلمين وأهل الاجتهاد والعدالة والأشراف والأعيان وأصحاب الاعتبار والتدبير هم من أطلق عليهم أهل الحل والعقد ومنهم تم اختيار عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عرفوا بأهل الشورى، ولكن ليس باعتبارهم هيئة تشريعية وإنما هيئة ناخبين للخليفة، وفي القصة ما يستدل به على جواز التمثيل النيابي. أما إطلاق أهل الحل والعقد على أهل الاجتهاد فهو من قبيل إطلاق الكل على الجزء ولهذا فإن الفقهاء قد اشترطوا شروطاً يجب توافرها في أهل الحل والعقد، فمنطق الحال يقتضي أن يكون جميع أهل الحل والعقد أو أكثرهم ممن لهم إلمام تام بالشريعة الإسلامية إذ الشورى مقيدة بألا تخرج على نصوص الشريعة القطعية ولا روحها التشريعية، وإذا كانت الحياة المعاصرة تتطلب تخصصات فنية في مجالات معقدة يصعب على غير المتخصصين ارتيادها، فإن الواجب أن يكون أهل الحل والعقد من المحيطين بالشريعة الإسلامية وبالعلوم والفنون والصناعات التي تحتاجها الأمة، كي تكون أهليتهم في تمثيل الأمة والنيابة عنها صحيحة.
ويمكن تلخيص ما يشترطه الفقهاء في أهل الحل والعقد في النقاط التالية:
1- البلوغ والرشد.
2- الإسلام.
3- العدالة.
4- العلم والاجتهاد ولو في جزئية منه ما دام الاجتهاد يقبل التجزئة.
5- الرأي والتدبير والأمانة.
هذه هي أهم الشروط التي تناولها الفقهاء وهي ليست توقيفية بنص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما هي اجتهادات شخصية لبعض أهل العلم بنيت على تصورات الفقهاء لوظيفة أهل الحل والعقد في زمانهم، غايتها توفر الأهلية في أهل الحل والعقد الذي يدخل في مهامهم تمثيل الأمة في اختيار الحاكم وتزكيته والتشريع فيما فيه مصلحة للأمة مما لم يرد فيه نص، وسبق أن أشرنا إلى ما نقله الشيخ محمد عبده عن الشيخ محمد رشيد رضا، ونأتي على ما أتى عليه في تفسيره المنار قال- رحمه الله-: أنه فكر في هذه المسألة من زمن بعيد، فانتهى به الفكر إلى أن المراد بأولي الأمر جماعة أهل الحل والعقد من المسلمين، وهم الأمراء والحكام والعلماء ورؤساء الجند وسائر الرؤساء والزعماء الذي يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة، فهؤلاء إذا اتفقوا على أمر أو حكم وجب أن يطاعوا فيه، بشرط أن يكونوا أمناء وأن لا يخالفوا أمر الله، ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي عرفت بالتواتر، وأن يكونوا مختارين في بحثهم في الأمر واتفاقهم عليه، وأن يكون ما يتفقون عليه من المصالح العامة، وهو ما لأولي الأمر سلطة فيه ووقوف عليه، وأما العبادات وما كان من قبيل الاعتقاد الديني فلا يتعلق به أمر أهل الحل والعقد، بل هو مما يؤخذ عن الله ورسوله فقط ليس لأحد رأي فيه، إلا ما يكون من فهمه، فأهل الحل والعقد من المؤمنين إذا أجمعوا على أمر من مصالح الأمة ليس فيه نص من الشارع مختارين في ذلك، غير مكرهين عليه بقوة أحد ولا نفوذه فطاعتهم واجبة، ويصح أن يقال هم معصومون في هذا الإجماع ولذلك أطلق الأمر بطاعتهم، بلا شرط مع اعتبار الوصف والاتباع المفهوم من الآية، وذلك كالديوان الذي أنشأه عمر باستشارة أهل الرأي من الصحابة ولم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعترض أحد من علمائهم على ذلك.
فأمر الله في كتابه، وسنة رسوله الثابتة القطعية التي حرص عليها صلى الله عليه وآله وسلم بالعمل هما الأصل الذي لا يرد، وما لا يوجد فيه نص عنهما ينظر فيه أولو الأمر إذا كان من المصالح، لأنهم هم الذين يثق بهم الناس فيها ويتبعونهم فيجب أن يتشاور في تقرير العمل به، ويقول السيد محمد رشيد رضا في موضع آخر من تفسيره: يجب أن يكون في الأمة رجال أهل بصيرة ورأي، في سياستها ومصالحها الاجتماعية وقدرة على الاستنباط، يرد إليهم أمر الأمن والخوف، وسائر الأمور الاجتماعية والسياسية وهؤلاء هم الذين يسمون في عرف الإسلام أهل الشورى، وأهل الحل والعقد، ومن أحكامهم أن بيعة الخليفة لا تكون صحيحة إلا إذا كانوا هم الذين يختارون الخليفة ويبايعونه برضاهم وهم الذين يسمون عند الأمم الأخرى بنواب الأمة، وسيأتي مزيد بيان عن ذلك عند حديثنا عن أهل الشورى وما أوردناه هنا إنما كان لغرض بيان صلة المجالس التشريعية بأهل الحل والعقد وإذا كنا قد أوضحنا في هذه العجالة الأساس الذي ينبغي أن تبنى عليه المجالس التشريعية أو المجالس النيابية كما يسميها البعض أو مجالس الشورى وأن أساس اختيارهم يمكن أن يأتي عن طريق تعيين ولي الأمر ضمن ضوابط وشروط أو عن طريق انتخابهم من قبل الأمة التي هم في الواقع ممثلون لها ونواب عنها ليمارسوا الشورى في التشريع فيما لم يرد فيه نص ضمن ضوابط وقواعد لاستنباط الأحكام في كل أمر يستدعي ذلك مما فيه تحقيق لمصلحة معتبرة معتمدين في ذلك على الأدلة التي أرشدهم إليها الشارع الحكيم.